السلام عليكم ورحمة الله وبركاته



بسم الله الرحمن الرحيم






هل من متفكر؟
أيها الأخ الحبيب: يقول الله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى
يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ
}فصلت53
ماذا عن قدرة الله في الآفاق؟ وماذا عن قدر الله
في أنفسهم؟

ألم تعلم أن الله تعالى يريد أن يرينا آياتِه في
الآفاق وأنفسنا؛ حتى يزدادَ المؤمنُ إيمانًا، ويزدادَ الكافرُ تبصرًا حتى
يتبين له أن هذا هو كتابُ الله، وهو الحقُ من عنده؟

ولما أراد ربنا أن يلفت أنظارنا إلى عظيم خلقه،
وإلى بديع قدرته، وإلى جميل تصويره، كان علينا إذن أن نسألَ أنفسَنا عن
هذه العبادة، وعن هذه الطاعة.

أيها الأخ الفاضل: كم مرة تفكرت في عظيم خلق
الله؟ كم مرة تدبرت آيةً من آيات الله في الآفاق وفي النفس؟ كم مرة تأملت
الشمسَ والقمر، السماءَ والأرضَ, الليل والنهار، الماءَ والهواء، الطعام
والشراب، الصحةَ والمرض، الموتَ والحياة، البعثَ والحساب؟

ألم تعلم أن الله تعالى قال في كتابه العظيم:
{إِنَّ فِي
خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ
لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ
}آل عمران190
من هم أولو الألبابِ؟ من هم أولو العقولِ
المستنيرةِ المفكرة؟

قال الله تعالى ـ يصفهم ـ:
{الَّذِينَ
يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ
وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا
خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ
}آل عمران191
ألم تعلم أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
قال في الحديث الذي رواه ابن حبان وصححه الألباني: " ويل لمن قرأها ولم
يتفكرْ فيها..{
إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ
لِّأُوْلِي الألْبَابِ
}آل عمران190".
وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ أيضًا: " تفكروا في
آلاء الله, و لا تفكروا في الله عز وجل " [أخرجه الطبراني في الأوسط
وأورده الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة].

قال ابن رجب: صاحب جامع العلوم والحكم:
"إنَّ هذا التفكُّر أفضلُ من نوافل الأعمال
البدنية, روي ذَلِكَ عن غير واحد من التَّابعين, منهم: سعيدُ بن المسيب,
والحسن، وعمر بن عبد العزيز, وفي كلام الإمام أحمد ما يدلُّ عليهِ ".



,,,,*
إذن فلا يكونن الشاعر الجاهلي.. يفكر وأنت لا تفكر، فهذا زهير بن أبي
سُلمى هداه التفكرُ إلى أن قال:
وأَعْلَمُ ما فِي اليومِ والأمْسِ قَبْلَهُ... ولكنَّنِي عن عِلْم ما فِي
غَدٍ عَمِ
فَلاَ تَكْتُمُنَّ اللهَ مَا فِي نُفُوسِكُمْ. . لِيَخْفَى وَمَهْمَا
يُكْتَمِ اللهُ يَعْلَمِ
يُؤَخَّرْ فَيُوضَعْ فِي كِتَابٍ فَيُدَّخَرْ. . لِيَوْمِ الحِسَابِ أَوْ
يُعَجَّلْ فَيُنْقَمِ


,,,,*
الطريق عن الأمن:
نعم، يريدُنا أن نُعملَ عقولَنا في الآفاق وفي النفس؛ كما كان يصنعُ شيخ
التوحيد، إبراهيمُ عليه السلام، فقد كان يقلبُ وجهه في صفحة السماء، ويقلب
ناظريه في كون الله الفسيح:
" وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ
{75}"[الأنعام]
لماذا يريه ملكوتَ السماوات والأرض؟ ليكون من الموقنين، المؤمنين؛ ليزدادَ
إيمانُه، وليقوى يقينُه، وليمتليء قلبُه؛ نورًا، وسكينة, وطمأنينةً،
وسعادةً، نعم: سعادة، وهل السعادةُ إلا لذةُ الأنُسِ بالله.
السؤال: مافائدةُ التفكر والنظرِ في ملكوت السماوات والأرض؟
الجواب: أن تكون من الموقنين.
السؤال: كيف؟
الجواب: أن تقلب ناظريك ـ متأملاً ـ في الآفاق وفي النفس.
قال المتنبي:
وَمَا انْتِفَاعُ أخي الدّنْيَا بِنَاظِرِهِ. . إذا اسْتَوَتْ عِنْدَهُ
الأنْوارُ وَالظُّلَمُ
أُعِيذُها نَظَراتٍ مِنْكَ صادِقَةً. . أن تحسَبَ الشّحمَ فيمن شحمهُ
وَرَمُ


,,,,*
"فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى
كَوْكَباً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ
الآفِلِينَ
{76} فَلَمَّا رَأَى
الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن
لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ
{77}
فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ
هَـذَا رَبِّي هَـذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي
بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ
{78}" [الأنعام]
وهكذا يسوقُ إبراهيمُ ـ عليه السلام ـ قومَه إلى التفكر، يدفعهم إلى النظر
والتدبر، بل ويدفعهم دفعًا، وينساق معهم ليَفْجُأَهم بالحقيقة، بعد أن
فند آلهتهم إلهًا إلهًا، وكوكبًا كوكبًا، وطاغيةً طاغيةً.
... إنني أعبد الذي خلق الكوكب والشمس والقمر، أدين للذي كور الكوكبَ
والشمس والقمر, أخضع للذي أتى بالقمر ليلاً، وأتى بالشمس لتصنع النهار!


,,,,*
... "إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي
فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ
{79} وَحَآجَّهُ
قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ
مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي
كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ
{80} وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ
أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ
سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ
تَعْلَمُونَ
{81} الَّذِينَ آمَنُواْ
وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ
وَهُم مُّهْتَدُونَ
{82} "[الأنعام].
وهذه ثمرة التفكر والإيمان والتوحيد، "لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم
مُّهْتَدُونَ"!
فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ والسعادة النفسيةِ، والراحةِ
الروحانية؟ المترددُ الغافل، أم المؤمنُ المتفكر؟
يا من تشتكي الهمَ والغمَ، وقلةَ الأمن، عليك بالتفكر في عظيم قدرة الله
في الآفاق وفي النفس.


,,,,*
بين يدي النمرود
وأتى إبراهيمُ على أصنام القوم فكسرها؛ "قَالُوا
ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ
(97) "
[الصافات]، وهو منطق الحديد والنار الذي يدقنه الظلمة.
"وذلك أنهم حَشَدوا في جمع أحطاب عظيمةٍ مدةً طويلة، وحَوّطوا حولها، ثم
أضرموا فيها النار، فارتفع لها لهب إلى عَنَان السماء: ولم توقد نار قط
أعظم منها، ثم عمَدوا إلى إبراهيم فكتفوه وألقوه في كفَّة المنجنيق، ثم
قذفوا به فيها " [ابن كثير: التفسير 6 / 271].
فنادى الله على النار، "قُلْنَا يَا نَارُ
كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ
"الأنبياء69
فخرج منها سالمًا لم يمسسه سوء، وقد مكث فيها أيامًا.
فاستدعاه الملك الطاغية الذي أمر بإعدامه حرقًا ـ النمروذ ـ, ووقف إبراهيم
بين يدي الطاغية.
قال الطاغية: من الذي أنجاك من النار؟
قال رب الذي يحيي ويميت؟
فقال النمروذ: أنا أحيي وأميت:
وأُوتى له برجلين قد استحقا القتلَ فأمر بقتل أحدهِما؛ فقُتل، وأمر بالعفو
عن الآخرِ؛ ففكوا وَثَاقه وأطلقوه، فقال النمروذ: ها أنا ذا أحيي وأميت!
{ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي
بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ
الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
}البقرة258
وقد سلبه الله ملكه، وقيل كان النمروذ أولُ ملكٍ في الأرض، وأولُ من وضع
التاج على رأسه، وقد قتل اللهُ هذا الذي يدعي إحياءَ الموتى وإماتةَ
الأحياء، فأماته الله ـ عز وجل ـ ببعوضة دخلت في أُذنه واستقرت بها، فلا
يهدأ له بال حتى يضربَ على أم رأسه بالمطارق، كالكلب العقور، والجُعلِ
الحقير.
وهكذا يدمر الله ممالكَ الجبابرة، الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها
الفساد:
{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي
الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن
تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ
}آل عمران26


,,,,*
العزير:
{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ
خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا
}
وهذا العزير ـ عليه السلام ـ يمر على قرية قد دمرها بعضُ الملوكِ الطغاةِ؛
وقيل هي بيتِ المقدس أيام احتلها طاغيةُ بابل " نبوخذ نصر الثاني أو
بختنصر الكلداني ملك بابل (605-563)ق.م "، فقد اقتحم القدسَ وفعل بها
الأفاعيل، بل فعل كما ذكرت الآيةُ على لسان بلقيس ":
{قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا
قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً
وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ
}النمل34.
فأعمل هذا الملكُ القتل والمذابح في هذه القرية، فانتشر فيها الخراب
والدمار، وإذا بالعزير يدخل هذا القرية بعد هذه المذبحة؛ فإذا هي موحشة
مرعبة، الأشلاء متناثرة، العظام متكسرة، والبيوت مهدمة، والصوامع مخربة،
الأسواق خاوية، الطرقات لا يدِبُّ عليها دبيبٌ، وفي أجواء هذا الصمتِ
المرعب يقول العزير:
" أَنَّىَ يُحْيِـي هَـَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا "!
ما أعظم اللهَ أن يحيي هذه القريةَ بعد موات، وأن يعمرَها بعد خراب، وأن
ينثر فيها الحياةَ والخضرة والحركة هنا وهناك، سبحان الله! إن يشأ أن
يفعلَ ذلك؛ فإنما يقول لها كوني فتكون!
"فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ "
مات موتةً حقيقةً من أول نهار ذلك اليوم الذي قال فيه هذه الكلمة؛ ومات
وشبع موتًا، ومرتِ السنون والعقود، وأحياه الله بعد قرن من الزمان في آخر
النهار؛ فخُيلَ للعزير أنها نام أولَ النهار واستيقظ آخره؛ وإنما هي
قيلولةٌ استرسل الجسدُ فيها فقطع سراة النهار راقدًا في هذه القرية
الموحشة.
فبعث الله ُ إلى العزير مَلكًا؛ وليلقنه الدرس:
"قَالَ كَمْ لَبِثْتَ؟ "
" قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ "
" قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ!!!"
ثم يسوقُ له دليلَ ذلكَ، والدليل أن تنظر، "فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ
وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ"؛ إن التين والعنب الذي كان معك في حقيبتك
لم يزل كما هو على حالته، لم يتغير ولم يفسد منذ مائة عام، سبحان الله
العنب والتين الذي يتلف في أيامٍ معدوداتٍ؛ أبقاه اللهُ صالحًا طازجًا
مائة عام! وفي نفس الوقت انظر إلى حمارك، لقد مات، وتحلل، وصار ترابًا على
تراب.
"وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ
آيَةً لِّلنَّاسِ
"
" وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا
ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً
"
ثم تعال إلى هذا المشهد العظيم؛ ولترَ الحمارَ الميتَ يُحييه اللهُ أمام
عينيك.
انظر إلى هذه اللوحةِ التي ستُرسمُ الآن، انظر إلى التراب الذي كان عظامًا
باليةً للحمار، ها هو التراب يتحول إلى عظامٍ، هيكلٍ عظمي للحمار، أشبه
بذلك الهيكلِ الذي يدرسه طلابُ الطبِ ويتعلمون فيه، انظر إلى اللحمِ يكسو
العظام، انظر إلى الجلد يكسو اللحم، انظر إلى الشعر يكسو الجلد، ها هي
عينا الحمارِ تنبت وتلمع في رأسه، ها هو الحمارُ ينتفضُ، يهتزُ، يقف،
وينهق، أمامَ عينيك.
"فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ
اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
" [البقرة:259].
هكذا تأثر العزير بهذا الموقفِ العظيم، وإن كان علمَ أن الله على كل شيء
قدير، فقد زاد علمًا فوق علمٍ، ويقنيًا فوق يقينٍ، وهذا لا يتأتى إلا
بالوقوفِ على عجيب صنعِ الله، الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ، إِنَّهُ
خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ.


,,,,*
كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى؟
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي
كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى
}
يقف الخليلُ إبراهيمُ يناجي الربَ ـ تبارك وتعالى ـ يسألَه أن يريه كيف
يحي الموتى، انظروا عندما يطمع العبد في كرم ربه؛ فيسألُه طلبًا بعد طلب،
ونحِلةً بعد نِحلة؛ فيطلب العبدُ من ربه طلبًا عجيبًا كهذا.
" قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن؟"
وهو ـ سبحانه وتعالى ـ يعلمُ نيةَ إبراهيم، ولكنه يريدُ أن يبين لنا نحن
صدقَ مقصدِ إبراهيم ـ عليه السلام ـ!
"قَالَ بَلَى، وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي "
ما أردتُ من وراء هذا الطلبِ سوى زيادةِ اليقين، وزيادة الإيمان، وأن
تخصني بنعمةٍ من دون الناس، فضلاً منك ونعمة.
" قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ"..
حسنًا؛ فعليك بأربعةٍ من الطير، قالوا: حمامةً وديكًا وطاوسًا وغراباً. ثم
اعرفهن جيدًا، وصرهن إليك، وقربهن نحوك، تأمل، طيورٌ عدة، أشكالٌ
متباينة، أحجام مختلفة، ألوانٌ متغايرة؛ ثم اذبحهن، وخلّطهن، واصنع من هذه
الأشلاء الممزقة أجزاءً:
"ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءاً ". .
ما أشقَ هذه المرحلة! إذنْ عليه أن يكابد صعود الجبال جبلاً تلو جبال، وقد
قالوا أنه صعد أربعةَ أجبل ـ وأورد ذلك الحافظُ ابن كثير والطبري
والزمخشري في تفاسيرهم ـ.
ويصعدُ إبراهيمُ الجبل الواحدَ، ويعاني من ذلك الأَمَرِّينَ
والأَقْوَرِينَ، ومن صعد جبال مكة في العمرة أو الحج يعرف مدى مشقةَ ذلك
جيدًا.
ولماذا يريدُ اللهُ أن يكابدَ إبراهيمُ هذه المكابدة؛ ذلك ليتعب من أجل
الحقيقة، ذلك ليسعى الإنسانُ في طلب المعرفة، ذلك تعلمَ أن العلمَ لا يأتي
إلا بما هو مثل صعود الجبال.
وذلك أيضًا ليرسخ هذا الموقفُ في وجدان إبراهيم؛ وهي طريقةٌ تربوية،
فالمعلومةُ التي يُبذلُ فيها جهدٌ تَثبُت وترسَخ، والله يستطيع أن يريه
إحياءَ الموتى، سهلاً رِسْلاً، ولا ينغْصه في ذلك تعب، ولا يكدره في ذلك
نصب. ولكنه ـ سبحانه ـ لا يريدُ أن يمر هذا الموقفُ على إبراهيمَ مرورَ
الكرامِ.
... والآن، قام إبراهيمُ بالمهمة، ونزل عن آخر جبل، ثم وقف مستقبلاً هذه
الجبال الشاهقة، التي وضع على كل قمةٍ من قممها جزءًا من أشلاء هذه
الطيور.
وينادي على هذه الأشلاء، ويقول: تعالين بإذن الله
"ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً
وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
"[البقرة260].
وإذا بالأشلاء الممزقةِ تلتئمُ في الهواء بإذن الله، وتعود طائرةً نحو
إبراهيم، فيقفن أمامه، ويتأملُهن فإذا هي حقًا تلك الطيورُ التي ذبحها
ومزقها بيديه. فما أعظم الله!
وحدثت المعجزة التي أجراها الله على يدِ إبراهيمَ، فالله سبحانه لم يكتف
بإحياء الموتى له، بل جعل إبراهيمَ نفسَه هو الذي يُحيي الموتى بإذن الله،
ليكون ذلك أبلغ في الإعجاز، وأبين لعظيم قدرة الله.
والأعجب من ذلك أيضًا:
{مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا
كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ
}لقمان28
{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ
قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي
أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ
}يس، 78،
79


,,,,*
وهذه مريم البتولُ، تلك التي اصطفها الله، وجاءت الملائكةُ تقولُ لها:
"... يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ
وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ
(42) "
هكذا اختارها اللهُ تعالى صفوةً من صفوة، إذن عليكِ بشكر النعمة،
والاستعادِ للمهمة:
" يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي
وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ
(43)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ
لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ
وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ
(44) إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ
اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ
مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ

(45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ
وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ
{46}" [آل عمران].
تتساءل، وتُفكر في قدرة الله بمنطق البشر، بل بمنطق الفكر الإنساني
المحدود الضعيف، لذا:
"قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ"
كيف يكون لي طفلٌ من غير أب، بل كيف تخلُق ـ سبحانه ـ إنسانًا بغير أب؟ "قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا
قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ
{47}"[آل
عمران].
بل إن الأمر بالنسبة له أهونُ من ذلك؛ فلن يكلف نفسه مشقةً ولا نصبًا في
أمر خلق الخليقة كلها، إنما هي كلمة يقولها، كن فيكون.


,,,,*


في النفس وفي الناس:
ثم انظر نفسك، وتفكر فيها، انظر في المرآة لترى
قدرة الله في إنشائك، بل انظر إلى ما يطرأ على النفس سلبًا وإيجابًا، من
صحة ثم مرض، ومن فقر ثم غنى، ومن سعادة ثم حُزن، ومن قوة ثم ضعف، وانظر
كيف يُهلك بالداء الهين الضعيف، وقد يُبرأُ العبدَ من المرض العضال..

فهذه سيدة مغربية مثقفة؛ أصيبت بالمرض الخبيث،
وقال لها الأطباءُ إن نوع السرطان الذي بك من أخبثِ أنواع الأورام، وأنه
لا فائدةَ من العلاج الجراحي فضلاً عن الحل الكيماوي، ومن الأحسنِ لك أن
تتركي تعذيب نفسك واستعيني بالمسكنات حتى الموت، علمًا أنه قد بقي من عمرك
على وجه التقريب نحو شهرٍ والله وحده يعلم الأعمارَ والأرزاقَ. فسافرت
المرأة إلى لندن فأخبرها الأطباءُ البريطانيون بنفس الحقيقة، ثم سافرت إلى
باريس فقالوا إن حالتك متأخرةٌ جدًا ولا يصلح فيها علاجُ، وقد كان معها
زوجها، فاقترح أن يذهبا إلى الحج، وينتهزها فرصةَ موسمه، فقصدتَ بيت الله،
وطافت، وسعت، ووقفت، ودعت، ونادت على الحي الذي لا يموت، تدعوه، اشف أنتَ
الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقما، وعادت إلى المغرب،
وأحست بالقوة تدبُ فيها، وبالآم تغيبُ شيئًا فشيئًا، فأجرت الفحوصات، فلم
يجدِ الأطباء أثرًا واحدًا لخليةٍ سراطانية واحدة!

{أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ
وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ
اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ
}النمل62.


,,,,*
انظر حولك في الخلق، في الأحداث الجارية، في انتقام الرب من الظالم، انظر
في قصص الجرائم والأحداث، لترى كيف يصرف الله الآيات ولترى عجيبَ صنعِه
بالظالمين، وتأمل مثلاً هذه القصة:
فقد مات أبٌ غنيٌ عن أولاد فيهم طمع، فلما غسلوه، وكفنوه، وحملوه، وفي يوم
الجنازة، قال أحدهم دعوني أدخل أنظر إلى أبي في مقبرته؛ لأتأكد أنه
موجهةٌ نحو القبلة، وكانت المقابر في هذه البلد أشبه بالغرف أو البيوت ـ
ولا حول ولا قوة إلا بالله ـ، فنزل القبرة، والناسُ من فوق، وربُ العالمين
فوق الجميع، وإذا بالناس يستغيبون الرجل، لقد مر ربعُ ساعةٍ ولم يخرجِ
الرجل، قال أحدهم دعوه يودع أباه، فقال الناس بل انزلوا فقد تأخر جدًا،
فنزل بعضُهم؛ فإذا بهذا الابن العقور قد مات، وقد انكفأ على أبيه، وهو
ممسكٌ بأصابع أبيه يريد أن يأخذ بصمته على عقد بيع، فما أقبحَ سوءَ
الخاتمة!
من أجل ماذا فعل ذلك؟ من أجل الطمع، من أجل أكل المواريث! قُتل الإنسانُ
ما أكفره!
وهذه راقصة ـ تحدثت عنها صحيفة البشاير في شهر مارس 2008 ـ كانت هذه
المرأةُ ترقص في الأرياف لبعض العائلات، فرآها أحد الطبالين الكبار في
مصر، فقال لها اطلبي الطلاق من زوجك وتعالي إلى عالم الفن والشهرة في
كازينوهات القاهرة، ففعلت؛ وطُلقت، وحملت حقيبتها، وركبت السيارة، ولكن
تموت في الطريق، و" مَنْ مَاتَ عَلَى شَيْءٍ بَعَثَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ "
كما في الحديث الذي رواه أحمد والحاكم وصححه الألباني.


,,,,*
وأخيرًا, ما هي التوصية العملية التي نخرج بها من
هذه الكلمة؟

حسبي منكم ـ أخوتي الاعزاء ـ أن تقفوا مع انفسكم
وقفة تدبر في قدر الله عز وجل.

وقفة دورية، يومية أو أسبوعية، تتأملُوا فيها آيات
الله في الآفاق وآياته في الأنفس.

ذلك، حتى لا تغيبَ قلوبُكم عن وعيه، حتى تُنقذه من
الغفلة، والران والقسوة.

ولا تبيتن ليلةً إلا على وضوء وصلاة وتفكر في عظيم
صنع الله في الآفاق وفي النفس.